فصل: الباب الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة **


 الباب الثالث

مواقف السلف من أهل البدع

تقديم‏:‏

عرفنا في الباب السابق بحمد الله وتوفيقه ضوابط البدعة، ومتى يحكم على المبتدع بالكفر، ومتى لا يحكم عليه بكفر‏.‏ والآن نأتي إلى بيان الضوابط الشرعية للتعامل مع المبتدع، وكيف يكون‏؟‏ والمدى الذي يوصل إليه في التعامل معه‏:‏

30- أولاً‏:‏ حراسة الدين‏.‏ وإبطال البدع‏.‏

*أول موقف لأهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو نَفيرهم الدائم لحراسة الدين، وإبطال البدع فما كان يطلع للبدعة قرن إلا ويهب الرجال العاملون والعلماء المخلصون لاستئصال شأفة هذه البدعة وإماتتها وقطعها عن طريق الأمة‏.‏

*وذلك أن الإسلام يشبه الثوب النظيف المصنوع من نسيج واحد، والبدعة إما رقعة دخيلة تشوه جمال الثوب، أو قذارة مشينة تعلق بالثوب، أو استبدال كامل للدين الحق بدين باطل‏.‏

وكان دأب السلف رضوان الله عليهم من الصحابة وتابعيهم بإحسان هو إبقاء ثوب الإسلام نسيجاً وحده، والمحافظة على طهارته ونقاوته‏.‏‏.‏

*وإذا أردت مثلاً آخر فقل‏:‏ الإسلام كَنَهْر رائق عذب صاف، مصدره الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة، والبدعة قذارة تُلقى في النهر، وإبعاد هذه القذارات ليبقى النهر صافياً، والأخذ من المعين صالحاً‏:‏ ولذلك وجد في كل قرن من ينفي عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وابتداع المبتدعين‏.‏‏.‏ وتزييف المزيفين‏.‏‏.‏ وهذا من كمال الأمة الإسلامية المرحومة التي لا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال‏.‏‏.‏

*والدجال آخر شر وبدعة تظهر في الأرض حيث يدعي أنه الله خالق السموات والأرض، وما هو إلا كذاب دجال أعور العين‏.‏‏.‏

*وكان أول بدعة ظهرت في الدين التفريق بين الصلاة والزكاة، والادعاء أن الزكاة لا تؤدى إلا للرسول ولا تعطي لخلفائه من بعده، فتصدى الصديق رضي الله عنه لهذه البدعة وقال قولته المشهورة‏:‏ ‏[‏والله لو منعوني عقالاً يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه‏]‏ فقاتل رضي الله عنه القائلين بهذه البدعة المنكرة، ووأدها في مهدها قبل أن يستفحل ضررها وشرها‏.‏‏.‏ ولو ترك أبو بكر ذلك فلم يقاتلهم لانْثَلَم الإسلام، ولما التأم بعد ذلك أبداً، ولأصبحت هذه البدعة سنة مُتّبعةً يأخذ بها الناس بعدهم فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويفعلون ما يحلو لهم من الدين ويتركون ما لا يشتهون‏.‏‏.‏ لو ترك أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة وأقرهم على ذلك لأصبح هذا ديناً إلى يومنا هذا‏.‏‏.‏

*وفي عهد الفاروق رضي الله عنه حصلت بعض البدع الصغيرة فأماتها كاتباع متشابه القرآن، واستحلال الخمر بزعم أن القرآن يبيح ذلك، والزعم أن الصحابة لا يطبقون القرآن كله‏.‏‏.‏ الخ

*وفي عهد عثمان رضي الله عنه حدثت أوائل الفتنة الكبرى وهي الخروج على الإمام الحق بالسيف، وانتهت بدعتهم بمقتله رضي الله عنه، وكان هذا بداية فتنة عظمى في الإسلام وظهور بدعة الخوارج التي لا تزال إلى يوم القيامة، ولقد قام أهل السنة والجماعة فردوا هذه البدعة بالعلم والبرهان والدليل، وبينوا ما فيها من الضلال وإن لم يستطيعوا أن يقضوا عليها بالسيف‏.‏‏.‏ واستمر خروج الخوارج بدءاً من الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يزال يخرج في قرن منهم طائفة حتى يخرج آخرهم مع الدجال‏.‏‏.‏

ثم توالت البدع فجاءت القدرية وجاءت المرجئة، وجاءت الرافضة، وجاء الزنادقة، والفرق الباطنية، وجاءت الجهمية منكرو الصفات والأسماء، وكلما ظهرت بدعة من هذه البدع كان أهل الإسلام الحق لها بالمرصاد، فأما الأمراء الصالحون فقد وضعوا السيف في أصحابها ومروجيها، وأما العلماء الأبرار فقد قاموا بالرد والإبطال لها‏.‏

*واستمرت هذه المعركة عبر التاريخ الإسلامي كله‏:‏ أهل الباطل يريدون اختراع دين جديد، أو إدخال باطلهم إلى هذا الدين، وأهل الحق ينافحون عن هذا الدين ويحمونه من أهل الانتحال والمبطلين ولا تكاد توجد بدعة أو مقالة من مقالات الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولعلماء السنة والجماعة جهاد مشكور وردود تدحض هذه البدعة، وتبين زيفها وبعدها عن الحق‏.‏

فلما ظهر الذين قالوا ‏(‏لا قدر وإنما الأمر أُنف‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ قام من يرد عليهم من الصحابة والتابعين قائلاً ‏(‏لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى‏)‏، وعندما قالت الجهمية القرآن مخلوق رد عليهم أهل السنة قائلين‏:‏ ‏(‏القرآن كلام الله غير مخلوق‏)‏ وعندما نَفَوْا استواء الله على العرش جعل أهل السنة من أصول الإيمان القول أن الله سبحانه فوق العرش وأن منكر هذا كافر، ولما قال تلاميذ الجهمية إن الله فوق العرش مكانةً ورفعةً لا مكاناً، قال أهل السنة بل يجب الاعتقاد بأن الله بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏‏.‏ وكلما أضاف أهل البدعة في بدعتهم، أضاف أهل السنة في السنة فقالوا ‏(‏يجب الاعتقاد أن الله فوق عرشه بائن من خلقه‏)‏‏.‏

وهكذا كلما أحدث المبتدعة بدعة، قام أهل السنة بإظهار السنة لتكون رداً على البدعة‏.‏‏.‏

ولا يزال الصراع هكذا بين الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين الذين يبتدعون في هذا الدين‏.‏

*والخلاصة أن موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو أنهم كشفوا اللثام عن كل قول أو فعل يخالف القرآن والسنة ويخرج عن إجماع الأمة، وصاحوا بأهل البدع من كل مكان في الأرض يبينون زيف مقالاتهم، وكذب ادعاءاتهم، وخروجهم ببدعتهم عن الإسلام الصحيح، والدين الخالص‏.‏

وبهذا بقي الإسلام بحمد الله عبر القرون هو الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولم يحصل لهذه الأمة ما حدث للأمم السابقة من موت الدين الحق، واستبداله بدين آخر مبتدع غير ما جاء به الرسول كما هو حادث لليهود والنصارى الآن، فإن كلاً منهم اخترع ديناً غير الدين الذي بعث به موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏

وأما هذه الأمة المرحومة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة فإن الصراط المستقيم فيها قائم إلى قيام الساعة، ولن يستطيع ضال أن يصرفها كلها إلى سبل الضلال‏.‏‏.‏‏.‏ بل تبقى منها طائفة على الحق ملتزمة الصراط المستقيم إلى قيام الساعة، ونسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء‏.‏

31- ثانياً‏:‏ الهجر‏.‏

اعلم أولاً حفظني الله وإياك وعلمنا ما ينفعنا أن الهجر بمعنى المفارقة، والمقصود بهجر المبتدع في كلام السلف هو مفارقة بدعته، وقد نص بعضهم على ترك الصلاة خلف أصحاب بدع بأعيانها، واتباع جنازتهم، وقبول شهادتهم وروايتهم على التفصيل الذي مضى في نوع البدع ومدى شناعتها وبعدها عن الكتاب والسنة والإجماع‏.‏

ولا شك أنه يندرج تحت هجر البدعة والمبتدع التحذير منها وبيان شرها وتنفير الناس عنها، ولكن هذا لا يعني بحال ظلم المبتدع بالتقول عليه والكذب والافتراء عليه وإلزامه ما لا يلزمه واستخراج لوازم من كلامه لا يقول بها ولا يعتقدها، وكذلك لا يدخل في هجر المبتدع هجر محاسنه وإبطال حسناته إن كانت له محاسن ما دام أنه مسلم داخل في دائرة الإسلام وفيه شيء من الإيمان ولو حبة خردل لم يبطلها الكفر، والشرك، فما دام أن المبتدع من أهل لا إله إلا الله وجب أن نشهد له بحسنته، وننفي بدعته، ونواليه فيما أحسن فيه، ونحبه بقدر إحسانه، ونعاديه بقدر بدعته فقط، ونكرهه بقدر هذه البدعة، وقد يجتمع فيه من أجل ذلك حب وبغض، وموالاة ومعاداة بقدر ما فيه من الإيمان والبدعة، ومن الطاعة والمعصية‏.‏ وهذا الذي جاء به القرآن والسنة وعليه إجماع سلف الأمة، ومن خالف ذلك فهو غالط متبع لسنة الخوارج الذي يهدرون عمل المسلم كله بالمعصية ويخرجونه من الدين بالذنب، ويستحلون ماله وعرضه ودمه بذلك والحال أنه من أهل الإيمان‏!‏‏!‏‏!‏

وأهم الضوابط المستفادة من كلام السلف في الهجر ما يلي‏:‏

1- أن يكون المبتدع من أهل البدع العقائدية الخمس وما تفرع منها تعريفها، وهي‏:‏ ‏"‏الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم، والإرجاء‏"‏، وكذلك أهل البدعة الكبرى والمخرجة من الدين وهي ‏(‏العلمانية‏)‏ أو ‏(‏اللادينية‏)‏‏.‏

2- أن يكون الهجر مفيداً في تقليل البدعة، أو إماتتها، وأما إذا كان الهجر يؤدي إلى نشر البدعة وشيوعها فقد يكون التأليفُ أولى‏.‏

3- أن يكون الهاجر قادراً على الهجر ومستطيعاً له، ونعني بالهجر هنا إظهار العداوة للمهجور، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن يقول‏:‏ القرآن مخلوق، فقال‏:‏ ‏(‏الحق به كل بلية‏!‏‏!‏، قيل فيظهر العداوة لهم أم يداريهم‏؟‏ قال‏:‏ أهل خراسان لا يقوون بهم‏)‏ أ‏.‏هـ ‏(‏الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/210‏)‏

ويحسن هنا أن ننقل بالنص فتوى شيخ الإسلام رحمه الله حول أحكام الهجر، وحكمته، فقد سئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى‏؟‏ ‏(‏أي البغض والهجر‏)‏‏.‏

وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط‏؟‏ وهل يدخل ترك السلام في الهجران‏؟‏ وإذا بدأ المهجور بالسلام فهل يجب الرد عليه‏؟‏ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها‏؟‏ أم هل يكون لذلك مدة معلومة‏؟‏ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها‏؟‏

فأجاب‏:‏ الهجر الشرعي نوعان‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏ بمعنى الترك للمنكرات، والثاني‏:‏ بمعنى العقوبة عليها‏.‏

فالأول‏:‏ هو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏86‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏140‏)‏

فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقول ‏(‏حاضر المنكر كفاعله‏)‏، وفي الحديث‏:‏ ‏[‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر‏]‏ ‏(‏صحيح الجامع 6506‏)‏‏.‏ وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏]‏ ‏(‏البخاري 10‏)‏

ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر، والفسوق إلى دار الإسلام، والإيمان‏.‏ فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ ‏(‏المدثر‏:‏5‏)‏

النوع الثاني‏:‏ الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، فيهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا -حتى أنزل الله توبتهم- حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير، وإن كان منافقاً، فهنا الهجر بمنزلة التعزير‏.‏

والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات‏:‏ كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع‏.‏

وهذه حقيقة قول من قال من السلف والأئمة‏:‏ إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون‏.‏ فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏[‏إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة‏]‏ ‏(‏موضوع انظر السلسلة الضعيفة ‏(‏1612‏)‏ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه‏]‏ ‏(‏أنظر صحيح الجامع ‏(‏1974‏)‏‏)‏‏.‏

فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة‏.‏

32- وجوب مراعاة المصلحة الشرعية في الهجر‏.‏

وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله‏.‏ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر‏.‏

والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين‏.‏ كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال، والمصالح‏.‏

وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل‏.‏ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين، وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه‏.‏

33- يجب أن يكون الهجر لله وفي الله‏.‏

وإذا عُرِفَ هذا، فالهجر الشرعي هو من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس وما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله‏!‏‏!‏

والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام‏]‏ فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال‏:‏ انظروا هذين حتى يصطلحا‏]‏ فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت‏.‏ وكما رخص في هجر الثلاث‏.‏

فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه‏.‏ ‏(‏فالأول‏)‏‏:‏ مأمور به، و‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ منهي عنه، لأن المؤمنين أخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏[‏لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏[‏ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر،ولكن تحلق الدين‏]‏ ‏(‏أخرجه أبو داود، والترمذي‏.‏ صحيح الجامع‏:‏2595‏)‏‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏[‏مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏]‏ ‏(‏أخرجه البخاري ‏(‏6011‏)‏ ومسلم ‏(‏2586‏)‏ من حديث النعمان بن بشير‏)‏

34- حكمة الهجر أن يكون الدين كله لله‏.‏

وهذا لأن الهجر من ‏"‏باب العقوبات الشرعية‏"‏، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين‏.‏ إنما المؤمنون أخوة‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏9-10‏)‏ فجعلهم أخوة مع وجود القتال، والبغي، والأمر بالإصلاح بينهم‏.‏

35- لا يجوز أن يكون الهجر نقضاً للموالاة في الله والأخوة بين المسلمين‏.‏

فليتدبر المؤمن الفرق بين هذه النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته، وإن ظلمك، واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته، وإن أعطاك، وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه‏.‏

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة، وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا، وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ‏(‏أرجو أن يتدبر الأخوة المؤمنون هذا الكلام النفيس حتى لا يكونوا من الجاهلين‏.‏ الذين يريدون إقامة أمر من أمور الذين فيهدمون غيره، كالخوارج الذين أرادوا إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهدموا أخوة الدين، وقتلوا أهل الإسلام‏)‏‏.‏

هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم عليهم، فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط‏.‏ ولا مستحقاً للعقاب فقط‏.‏ وأهل السنة يقولون‏:‏ إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجه منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم، وصل اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه وأجمعين‏.‏ أ‏.‏هـ ‏(‏الفتاوى 28/203-210‏)‏‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏

وفي مسائل اسحق بن منصور وذكره الخلال في ‏"‏كتاب السنة‏"‏ في باب مجانبة من قال‏:‏ القرآن مخلوق عن اسحق أنه قال لأبي عبدالله‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق‏؟‏ قال‏:‏ ألحق به كل بلية‏.‏ قلت‏:‏ فيظهر العداوة لهم أم يداريهم‏؟‏ قال‏:‏ أهل خراسان لا يقوون بهم ‏(‏أي أن أهل السنة هناك قلة ولا يستطيعون إظهارها ولا مجانبة أهل البدع‏)‏‏.‏ وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية‏:‏ لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة ‏(‏وفي هذا دليل على عدم هجران المبتدع الذي يمكن الاستفادة مما عنده من العلم‏)‏، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم‏.‏ أ‏.‏هـ

36- الهجر أحياناً عقوبة شرعية يجب أن توضع في موضعها‏.‏

فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏المهاجر من هجر السيئات‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏من هجر ما نهى الله عنه‏]‏‏.‏ فهذا هجرة التقوى‏.‏ وفي هجرة التعزير والجهاد‏:‏ هجرة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر المسلمين بهجرهم حتى تِيبَ عليهم‏.‏

37- والهجر أحياناً يكون تركاً من المسلم للمعصية‏.‏

فالهجر تارة يكون من نوع التقوى، إذا كان هجراً للسيئات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏68-69‏)‏، فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين، وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض في آيات الله هم المتقون، وتارة يكون من نوع الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وهو عقوبة من اعتدى، وكان ظالماً‏.‏

38- شروط استخدام الهجر عقوبة شرعية‏.‏

وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة، فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين‏:‏ بين القادر، والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع، وكثرته، وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم‏:‏ من الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم‏:‏ إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما‏.‏ وما أمر به من هجر الترك، والانتهاء، وهجر العقوبة، والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة، وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة‏.‏

39- حكمة الهجر‏.‏

فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم، وذنب وإثم، وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر، وعقوبة الظالمين لينزجروا، ويرتدعوا، وليقوى الإيمان، والعمل الصالح عند أهله‏.‏ فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحصنها على فعل ضد ظلمه‏:‏ من الإيمان، والسنة، ونحو ذلك‏.‏ فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد، ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره أحمد رحمه الله عن أهل خراسان إذ ذاك‏:‏ أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكانت مداراتهم فيها دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي‏.‏ وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس‏.‏ ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل‏.‏

40- لا يجوز جعل ما أفتى به الإمام في قضية مخصوصة من قضايا الهجر حكماً عاماً في جميع الأحوال، والأزمان‏.‏

كثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة رحمهم الله تعالى خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها‏.‏ فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر، والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب، ولا يستحب، وربما تركوا به الواجبات، أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يُعَاقبون بالهجر ونحوه مَن يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر، أو ترك النهي عنه، وذلك فعْلُ ما نُهوا عنه، وتَرْكُ ما أُمِرُوا به‏.‏ فهذا هذا‏.‏ ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏مجموع الفتاوى 28/203-213‏)‏

الخلاصة‏:‏

41- الفوائد التي نستفيدها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في حكمة الهجر‏.‏

*ونستفيد من كلام شيخ الإسلام السابق ما يلي‏:‏

أن لهجر المبتدع أو العاصي حكم عظيمة في الشرع منها‏:‏

1- تأديب المهجور وزجره ووعظه وتقويمه، قاله ابن القيم في الزاد في معرض تعداده للأحكام والحكم المستفادة من غزوة تبوك‏:‏

‏"‏وفيه دليل أيضاً على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه‏"‏‏.‏ ‏(‏زاد المعاد 3/3578‏)‏

2- تقليل البدعة واحتواؤها وتحذير الناس من شرها‏.‏ وذلك أن المبتدع متى ما هُجِرَ كان شأنه كالبعير الأجرب الذي يعزل عن السليمة حتى يبرأ ولا يعدي غيره‏.‏

3- البعد بالنفس عن المبتدع حتى لا تقع شبهته، وبدعته في نفس المجالس، والزائر له، فكم من حاذق وعالم جالس أصحاب البدع فتأثر بهم‏!‏‏!‏

4- إنه امتثال لأمر الله الذي أمرنا باجتناب أماكن المعصية والمجالس التي يخاض فيها في آيات الله كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‏}‏‏.‏

5- أن الهجر يختلف حكمه بحسب قوة الهاجر وضعفه وكونه أنفع لبعض الناس وكون التأليف أنفع من الهجر أحياناً‏.‏ ولذلك فإنه ينظر فيه إلى المنافع والمفاسد والقدرة وهذا يختلف من بلد إلى بلد، ومن مبتدع إلى آخر‏.‏

6- أن الهجر الشرعي هو ما كان لله سبحانه وتعالى، وليس لحظ النفس، والغضب لها، أو الحسد، والمنافسة للمهجور‏.‏

7- أن المهجور في الله يُواليَ بحسب طاعته، ويُعَادي بحسب معصيته، وأنه لا يكون حكمه حكم الكافر الذي يُعَادي مطلقاً، ولا تجوز موالاته وإن أحسن إليك، وأما المؤمن فإنه لا يجوز معاداته وإن أساء إليك، وأن هجره والتشديد عليه إنما هو بحسب بدعته، ومن أجل ردعه وإصلاحه وليس من أجل قتله وإبعاده‏.‏

42- الغاية التي ينتهي عندها الهجر‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏

‏"‏ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة، والله أعلم‏"‏‏.‏ ‏(‏الفتاوى 24/292‏)‏‏.‏

وقال الإمام البخاري في صحيحه‏:‏

‏"‏باب من لم يُسلِّم على من اقترف ذنباً ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي‏؟‏ وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ لا تسلموا على شرِبَة الخمر‏.‏

وساق بإشارة، أن عبدالله بن كعب قال ‏(‏سمعت كعب بن مالك يُحدث حين تخلف عن تبوك ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فأقول في نفسي‏:‏ هل حرَّك شفتيه برد السلام أم لا‏؟‏ حتى كملت خمسون ليلة، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر‏)‏‏.‏

وقال ابن حجر‏:‏ قوله ‏(‏باب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي‏؟‏ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع‏.‏ قال الإمام النووي‏:‏ فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم‏.‏ وقال المهلب‏:‏ ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافراً، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏ وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى‏.‏ وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يسلم على أهل الأهواء‏.‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ ويكون ذلك سبيل التأديب لهم والتبري منهم‏.‏ وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضاً فقيل‏:‏ يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوماً كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق ما ادعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني‏.‏ وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذاً من قصة كعب فقال‏:‏ لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه، يعني فتكون واقعة حال لا عموم فيها‏.‏

وقال النووي‏:‏ وأما المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى‏.‏ والتقيد بمن لم يتب جيد لكن في الإستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الإطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكناً، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك‏.‏ ‏(‏فتح الباري 11/42-43 طبع الريان‏)‏‏.‏

43- هل يهجر أهل البدع العملية كأهل بدعة ‏(‏السماع‏)‏ الصوفي‏.‏

قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏

‏"‏وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه ‏(‏التغبير‏)‏ يصدون به الناس عن القرآن‏.‏

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال‏:‏ هو محدث أكرهه، قيل له‏:‏ إنه يرق عليه القلب، فقال‏:‏ لا تجلسوا معهم، قيل له‏:‏ أيهجرون‏؟‏ فقال‏:‏ لا يبلغ بهم هذا كله‏.‏ فبين أنه بدعة لم تفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في مصر، ولا في العراق ولا خراسان‏.‏ ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف‏"‏‏.‏ ‏(‏الفتاوى 11/ 592‏)‏‏.‏

ومعنى هذا أن الإمام أحمد رحمه الله رأى أن هذه بدعة صغيرة لا تستلزم الهجران كله‏.‏

بل رأى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعض الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من المشايخ الصالحين ويرى شيخ الإسلام أنهم أخطئوا في اجتهادهم والله يغفر لهم‏.‏ وهذا قوله في ذلك‏:‏

‏"‏والذين حضروا هذا السماع من المشايخ الصالحين شرطوا له شروطاً لا توجد إلا نادراً، فعامة هذا السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطأوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين‏"‏‏.‏ ‏(‏الفتاوى 11/597‏)‏‏.‏

*وهذا كما قدمنا في بدعة التصوف إذا كان هؤلاء من أهل هذه البدعة العملية فقط فأما إذا كانوا من أهل البدعة المركبة فجمعوا مع السماع فساد الإعتقاد كالقول ‏(‏بوحدة الوجود‏)‏، وهو زندقة وكفر، أو القول ‏(‏بالحقيقة المحمدية‏)‏ فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، أو القول بأن الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يُدعَون من دون الله، فمثل هؤلاء يجب فيهم ما يجب في أشباههم من الزنادقة الملحدين، والمبتدعة الضالين‏.‏

44- ثالثاً‏:‏ حُكم الصلاة خلف أهل البدع‏.‏

اعلم أن خلاصة أقوال أهل العلم وسلف الأمة في ذلك ما يأتي‏:‏

1- أن الصلاة لا تجوز خلف الكافر الأصلي والكافر المرتد، ولا من أقيمت عليه الحجة بكفره عينا وشهد أهل العلم بذلك، وهذا بمثابة الإجماع‏.‏

2- أن ترك الصلاة خلف المستور ومن لم تُعْرَف عقيدته بدعة، وأنه لم يقل أحد من السلف إنه لا يجوز الصلاة إلا خلف من عُرِفَتْ عقيدته‏.‏

3- أن الصلاة جائزة ومشروعة خلف المبتدع الذي لم يُكَفَّرْ ببدعته ‏(‏حسب الضوابط في الفقرة الأولى‏)‏، وأن هذا هو الذي جرى عليه سلف الأمة وعلماؤُها‏.‏

وإليك أقوال أهل العلم في ذلك‏:‏

45- رأي الإمام البخاري رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع‏.‏

قال‏:‏ باب إمامة المفتون والمبتدع‏.‏

وَعَلَّقَ قَوْل الحسن‏:‏ ‏(‏صلِّ وعليه بدْعَتُهُ‏)‏، وأورد حديث عبيدالله بن عدي بن خيار‏:‏ ‏[‏أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال‏:‏ إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ الصلاة أحسنُ ما يَعْمَلُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم‏]‏‏.‏ ‏(‏صحيح البخاري كتاب الأذان 56‏)‏‏.‏

واستدلاله بهذا الحديث موافق للترجمة تماماً، وذلك أن الخارجين على إمام الهدى عثمان بن عفان رضي الله عنه قد كانوا بُغَاةً أشراراً فُجَّاراً حصروا من اتفق المسلمون على خلافته، ونَقَضُوا عهده، ووثبوا إلى محرابه، وهو سلطانه محراب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أجاز عثمان رضي الله عنه الصلاة خلفهم، بل أمر الناس بذلك خوفاً من تضييع الصلاة‏.‏ ويبدو أن هذا هو رأي البخاري رحمه الله بدليل تعليقه قول الحسن رضي الله عنه‏.‏

46- تحقيق الإمام ابن حجر في الصلاة خلف المبتدع‏.‏

وقد حقق الإمام ابن حجر رحمه الله معنى قول عثمان رضي الله عنه‏:‏ ‏[‏الصلاة خير ما يعمل الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏]‏ فقال‏:‏

‏"‏قوله ‏(‏فإذا أحسن الناس فأحسن‏)‏ ظاهرة أنه رَخَّصَ له في الصلاة معهم، وكأنه يقول‏:‏ لا يضرك كونه مفتوناً، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افْتُتِنَ به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال‏:‏ يحتمل أن يكون رأي أن الصلاة خلفه لا تصح، فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة، لأنه إما كافر أو فاسق‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا ما قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر، لأن سيفاً روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري، عن أبيه‏:‏ قال‏:‏ كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال‏:‏ من دعا إلى الصلاة فأجيبوه‏.‏ انتهى‏.‏ فهذا صريح في أن مقصوده بقوله ‏(‏الصلاة أحسن‏)‏ الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال‏:‏ قالوا لعثمان‏:‏ إنا نَتَحَرَّجُ أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري، وهذا منقطع إلا أنه اعتُضِدَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا أساءوا فاجتنب‏)‏ فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على من زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام‏.‏‏"‏ ‏(‏فتح الباري 2/222‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ لعل الإمام البخاري رحمه الله كان يرى كفر الجهمية على الخصوص من سائر أهل البدع، وذلك لشناعة أقوالهم كما ذكر ابن المبارك أيضاً‏:‏ ‏(‏إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية‏)‏ أي‏:‏ لبلوغه الغاية في إنكار معاني أسمائه وصفاته‏.‏

ولكن يجب أن يعلم أيضاً أن التجهم درجات، فربما وجد في التجهم من تأول بعض الآيات في الصفات، وقد يصل إلى النفي المحض، بل نفي النفي، ونفي الإثبات ممن يقول‏:‏ لا أنفي ولا أثبت‏.‏

47- موقف الإمام ابن تيمية في حكم الصلاة خلف المبتدع‏.‏

وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الصلاة خلف أهل البدع، فقال‏:‏

‏"‏ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات ولا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة‏:‏ أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يُعْلَمُ أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد رحمهما الله وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر، كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر، وليس هناك جمعة أخرى فهذه تُصَليَّ خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة‏.‏ وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم‏.‏ وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نُقِلَ ذلك عن أحمد رحمه الله أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد رحمه الله أنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله‏.‏

ولما قدم أبو عمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت بالديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين رحمه الله، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلو والسنة يكثر بها ويظهر‏.‏

فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان اله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك‏.‏

وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عُبَيْد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال‏.‏‏"‏ ‏(‏الفتاوى 3/280-281‏)‏‏.‏

وسُئلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الصلاة خلف من يقول على المنبر‏:‏ ‏(‏إن الله تكلم بكلام أزلي قديم ليس بحرف ولا صوت فهل تسقط الجمعة خلفه‏؟‏ وعن الصلاة خلف من يأكل الحشيشة وعن الصلاة خلف المرازقة‏؟‏ فأجاز الصلاة خلف هؤلاء جميعاً‏؟‏ وقال‏:‏

‏"‏إذا كان الإمام مبتدعاً فإنه يصلى خلفه الجمعة، وتسقط بذلك، والله أعلم‏"‏‏.‏ ‏(‏الفتاوى 23/351،356،361،370‏)‏‏.‏

وقد بنى شيخ الإسلام رحمه الله هذا الحكم على الأصل الآتي حيث قال‏:‏

‏"‏ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏285‏)‏ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم‏.‏

والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار‏.‏ ولهذا لم يَسْبِ حريمهم، ولم يغنم أموالهم‏.‏

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هم أعلم منهم‏؟‏ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً‏؟‏ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه‏.‏

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع‏:‏ ‏[‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا‏]‏ ‏(‏البخاري‏:‏76‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه‏]‏ ‏(‏مسلم‏:‏2564‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله‏]‏ ‏(‏البخاري‏:‏391‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار‏.‏ قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ إنه أراد أن يقتل صاحبه‏]‏ ‏(‏البخاري‏:‏31‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض‏]‏ ‏(‏البخاري‏:‏121‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا قال المسلم لأخيه يا كافر‏!‏ فقد باء بها أحدهما‏]‏ ‏(‏البخاري‏:‏6103‏)‏ وهذه الأحاديث كلها في الصحاح‏.‏

وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يُكَفَّرْ بذلك كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أنه قد شهد بدراً، وما يُدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏؟‏‏]‏ وهذا في الصحيحين‏.‏ وفيهما أيضاً من حديث الإفك‏:‏ أن أسيد بن الحضير رضي الله عنه قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه‏:‏ إنك منافق، تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم‏:‏ إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة‏.‏

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قتل رجلاً بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله، وعَظَّمَ صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال‏:‏ ‏[‏يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله‏؟‏ وكرر ذلك عليه، حتى قال أسامة‏:‏ تمنيت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ‏]‏‏.‏ ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية، ولا كفارة فإنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القاتل لظنه أنه قالها تعوذاً‏.‏

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين، ونحوهم، وكلهم مسلمون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏9‏)‏ فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبَغْيِ بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل‏.‏

ولهذا كان السلف مع القتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون، ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه ‏[‏أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك‏]‏ وأخبر أن الله تعالى لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً‏.‏

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ قال ‏[‏أعوذ بوجهك‏]‏ ‏{‏ومن تحت أرجلكم‏}‏ قال ‏[‏أعوذ بوجهك‏]‏ ‏{‏أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ قال ‏[‏هاتان أهون‏]‏‏.‏

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏159‏)‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة‏]‏، وقال‏:‏ ‏[‏الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد‏]‏ ‏(‏رواه الترمذي‏.‏ انظر صحيح الترمذي ‏(‏1758-1760‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏[‏الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم‏]‏ ‏(‏ رواه الإمام أحمد، وذكره شيخنا الألباني في ضعيف الجامع ‏(‏1477‏)‏، وأخرج أبو داود، والنسائي عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية‏.‏ انظر صحيح الجامع ‏(‏5701‏)‏‏)‏‏.‏

48- خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع‏.‏

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من أظهر البدع والفجور منعه‏.‏

وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏[‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجره، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً‏]‏ ‏(‏رواه الإمام مسلم 673،674‏)‏‏.‏

وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا وُلِّى غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة، والجماعة‏.‏ جهلاً وضلالاً، وكان قد رَدَّ بدعة ببدعة‏.‏

وأما الذي صلى الجمعة خلف الفاجر فقد اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل رحمه الله في رواية عبدوس‏:‏ من أعادها فهو مبتدع‏.‏ وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة‏.‏ وبهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذووا الأعذار النادرة، والمعتادة، والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل وأبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمر وعمار لما أجنبا، وعمر لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء‏.‏

والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏187‏)‏ هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنما هو سواد الليل وبياض النهار‏]‏ ‏(‏البخاري 1916‏)‏ ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، أو الذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهم بعد أن نسخت ‏(‏بالأمر بالصلاة إلى الكعبة‏)‏، وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ‏.‏

وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏ في مذهب أحمد وغيره‏:‏ قيل يثبت، وقيل لا يثبت، وقيل لا يثبت المبتدأ دون الناسخ، والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حنى نبعث رسولاً‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏15‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏165‏)‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‏]‏ ‏(‏رواه البخاري 7461‏)‏‏.‏

فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند، والفاجر، بل جعل الله لكل شيء قدراً‏.‏ أ‏.‏هـ ‏(‏الفتاوى 3/282،288‏)‏‏.‏

49- رابعاً‏:‏ حكم شهادة أهل البدع‏.‏

قال الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين، وعمدة المفتين‏:‏

‏"‏في شهادة المبتدع جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يُكَفِّرون أحداً من أهل القبلة، ولكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم ويقولون‏:‏ ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الإمام فقال‏:‏ ظني أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفر في الحجاج، فقيل إنه كَفَّرَهُمْ ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو الجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في ‏(‏الأم‏)‏ ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسنٌ، وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة وتحَتُّم الخلود في النار، وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم ‏(‏لم‏)‏ يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

ثم من كُفِّرَ من أهل البدع لا تُقْبَلُ شهادته، وأما من لا يُكَفَّرُ من أهل البدع والأهواء فقد نص الشافعي رحمه الله في ‏(‏الأم‏)‏ و‏(‏المختصر‏)‏ على قبول شهادتهم إلا الخطابية، وهم قوم يَرَوْن جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول‏:‏ لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها ويشهد له اعتماداً على أنه لا يكذب هذا نصه‏.‏ وللأصحاب فيه ثلاث فرق‏:‏ فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، ومنهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم، ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، لأنه أقدم عليه عن اعتقاد لا عن عداوة وعناد، قالوا‏:‏ ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول الشافعي بأن قال‏:‏ سمعت فلاناً يقر بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه قُبِلَتْ شهادته‏.‏

وفرقة منهم الشيخ أبو حامد، ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم، وقالوا هم بالرد أولى من الفسقة‏.‏ وفرقة ثالثة توسطوا فردوا شهادة بعضهم دون بعض، فقال أبو اسحاق‏:‏ من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه ردت شهادته لمخالفته الإجماع، ومن فضل علياً على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها، فإنها محصنة كما نطق به القرآن وعلى هذا جرى الإمام الغزالي، والبغوي، وهو حسن‏.‏ وفي ‏(‏الرقم‏)‏ أن شهادة الخوارج مردودة لتكفير أهل القبلة‏.‏

قلت ‏(‏أي النووي رحمه الله‏)‏‏:‏ الصواب ما قالته الفرقة الأولى، وهو قبول شهادة الجميع فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم‏:‏ ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تبايناً شديداً، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادماً‏:‏ منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحداً من سلف الأمة يقتدي به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم‏.‏ هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير هذا القائل بخلق القرآن‏.‏ ولكن قاذف عائشة رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته، ولنا وجه ‏(‏أن‏)‏ الخطابي ‏(‏أي من كان من فرقة الخطابية، وهي إحدى فرق الغلاة، الروافض الذين يستحلون الكذب، ومن حلف لهم بالإمام قبل قوله مطلقاً، ولو كان فيه ادعاء على غيره بدم، أو مال‏!‏‏!‏‏!‏‏)‏ لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع لاحتمال اعتماده قول صاحبه‏"‏‏.‏ ‏(‏روضة الطالبين 11/239،241‏)‏‏.‏

*وقد ذهب الإمام ابن القيم رحمه الله إلى قبول شهادة أهل البدع ما لم يكفروا ببدعتهم أو يستحلوا الكذب‏.‏‏.‏ وتأول رحمه الله كلام الإمام أحمد وغيره في رد شهادة أهل البدع بأن مقصوده إنما كان من باب الزجر عن بدعهم لا أن هذا هو حكمهم‏.‏

قال رحمه الله في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‏:‏

*الحكم بشهادة الفساق، وذلك في صور‏:‏

*إحداها‏:‏ الفاسق باعتقاده، إذا كان متحفظاً في دينه، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه، كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم، هذا منصوص الأئمة‏.‏

*قال الشافعي‏:‏ أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم‏.‏

ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ويعد الكذب ذنباً أولى بالقبول ممن ليس كذلك، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم‏.‏

وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه هجراً له وزجراً لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه وتنفيذ أحكامه رضىً ببدعته، وإقراراً له عليها، وتعريض لقبولها منه‏.‏

*قال حرب‏:‏ قال أحمد‏:‏ لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا بدعة ويخاصم عليها‏.‏

*وقال إسحاق ابن منصور، قلت لأحمد‏:‏ كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلاً لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد‏:‏ ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة‏.‏

*وقال الميموني‏:‏ سمعت أبا عبدالله يقول‏:‏ من أخاف عليه الكفر مثال الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم‏.‏

خامساً‏:‏ أحكام الرواية عن المبتدع‏.‏

50- مواطن الإختلاف والاتفاق عند علماء الحديث في حكم قبول رواية المبتدع‏.‏

قال البغوي في شرح السنة‏:‏

‏"‏وكذلك اختلفوا في رواية المبتدعة وأهل الأهواء فقبلها أكثر أهل الحديث، إذا كانوا فيها صادقين، فقد حدَّث محمد بن اسماعيل عن عباد بن يعقوب الرواجني، وكان محمد بن اسحاق بن خزيمة يقول‏:‏ حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب‏!‏‏!‏

واحتج أيضاً البخاري في ‏(‏الصحيح‏)‏ بمحمد بن زياد الألهاني، وحزير بن عثمان الرحبي، وقد اشتهر عنهما النصب، واتفق البخاري ومسلم على الإحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وعُبيد الله بن موسى، وقد اشتُهِرَ عنهما الغُلُو‏.‏

وأما مالك بن أنس فيقول‏:‏ لا يؤخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الإختلاف في قبول رواية هؤلاء الحاكم أبو عبدالله الحافظ في كتابه‏.‏

وسئل أحمد بن حنبل‏:‏ يكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا‏"‏ ‏(‏شرح السنة للبغوي 1/248،249‏)‏‏.‏

وقال الذهبي رحمه الله في ميزان الإعتدال عند ترجمته لأبان بن تغلب الكوفي‏.‏ قال‏:‏

‏"‏أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته‏.‏‏"‏

وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين وابن أبي حاتم، وأورده ابن عدي وقال‏:‏ كان غالياً في التشيع، وقال السعدي‏:‏ زائغ مجاهر‏.‏

فلقائل أن يقول‏:‏ كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان‏؟‏ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة‏؟‏

وجوابه أن البدعة على ضربين‏.‏ فبدعة صغرى كغلو التشيع ‏(‏أي في زمن الصحابة، كان من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية يعتبرونه شيعياً غالباً‏)‏ كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق‏.‏ فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جمله من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة‏.‏

ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعوة إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبل نقل من هذا حاله‏؟‏‏!‏ حاشا وكلا‏.‏ فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم‏.‏ والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال مُعثَّر ‏(‏ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما‏)‏ ‏(‏ميزان الإعتدال 1/5،6‏)‏‏.‏

51- وخلاصة مذهب المحدثين في قبول رواية المبتدع‏.‏

1- منهم من يرى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن رأساً في البدعة كما روى الخطيب البغدادي عن علي بن الحسن بن شقيق أنه قال لعبدالله بن المبارك سمعت من عمرو بن عبيد فقال بيده هكذا‏:‏ أي كثرة، قلت له فلم لا تسميه وتسمي غيره من القدرية‏:‏ قال‏:‏لأن هذا كان رأساً‏؟‏ ‏(‏الكفاية ص 203‏)‏‏.‏

2- ومنهم من رأي الرواية عن صاحب البدعة الصغيرة التي لا تبلغ حد الكفر كما روى عن الإمام أحمد في قبول رواية المرجئة لأنه لم ير بدعتهم كبيرة‏.‏

3- واتفق جمهور المحدثين على أن أهل الأهواء المكفرة لا تقبل روايتهم كما قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله‏:‏

‏"‏البدعة على ضربين‏:‏ فبدعة صغرى‏.‏‏.‏ وبدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعوة إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة‏"‏‏.‏ ‏(‏ميزان الاعتدال 1/6‏)‏‏.‏

4- واتفقوا جميعاً وأجمعوا على أن شرط قبول الرواية الصدق من كل أحد سواء كان صاحب بدعة أم لا‏.‏ فالكذاب مردود الرواية ولو كان من أحسن الناس اعتقاداً‏.‏

وفي تهذيب التهذيب للإمام ابن حجر رحمه الله أن البرتي ذكر في الطبقات أن الأمام مالك رحمه الله سئل كيف رويت عن داود بن الحصين، وثور بن زيد وذكر غيرهما وكانوا يرمون بالقدر‏؟‏ فقال‏:‏ كانوا لأن يخروا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا كذبة‏.‏ أ‏.‏هـ ‏(‏تهذيب التهذيب 2/29‏)‏‏.‏

ولذلك قال المحقق العالم المحدث الشيخ أحمد شاكر‏:‏

‏"‏والعبرة في الرواية بصدق الراوي، وأمانته، والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواية يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والإطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه‏"‏‏.‏ ‏(‏الباعث الحثيث ص 111،112‏)‏‏.‏

وقد كان مذهب الإمام ابن حجر العسقلاني أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله أن المبتدع إذا كان داعية لبدعته فلا يقبل، ولكن يقبل إذا لم يكن داعية، أو كان داعية وتاب، أو كان داعية لكن اعتضدت روايته بمتابع‏.‏ ‏(‏هدى الساري ص 483‏)‏‏.‏

52- توصيف البدع التي رمي بها بعض الرواة‏.‏

قال ابن حجر في مقدمته هدى الساري‏:‏

‏"‏والإرجاء بمعنى التأخير، وهو عندهم على قسمين‏:‏ منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والإعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك‏.‏

والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي فإن أضاف إلى ذلك السب، أو التصريح بالبغض فغال في الرفض‏.‏ وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو‏.‏

والقدري من يزعم أن الشر فعل العبد وحده‏.‏

والجهمي من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول إن القرآن مخلوق‏.‏

والنصب بغض علي وتقديم غيره عليه‏.‏

والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم‏.‏

والإباضية منهم أتباع عبدالله بن أباض‏.‏

والقعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة، ولا يباشرون ذلك‏.‏

والواقف في القرآن من لا يقول مخلوق ولا ليس بمخلوق‏"‏‏.‏ ‏(‏هدي الساري ص 483‏)‏‏.‏

53- أسماء الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما وقد رمي كل منهم ببدعة من أصول البدع‏.‏

وقد سمى السيوطي أسماء من رمي ببدعة ‏(‏ولا شك أن بعض هؤلاء نوزع في نسبة البدعة إليهم إلا أنه قد صح في الجملة في عدد كثير منهم، ومعلوم أن منهج أهل الحديث هو قبول رواية المبتدع ما لم يكفر ببدعة، أو يستحل الكذب أو كان داعياً إلى بدعته عند بعضهم‏)‏ وجاءت روايته في البخاري ومسلم أو أحدهما‏.‏ فكانت على النحو التالي‏:‏

أ- الذين رموا بالقدر‏:‏

1‏.‏ ثور بن زيد المدني

2‏.‏ ثور بن يزيد الحمصي

3‏.‏ حسان بن عطية المحاربي

4‏.‏ الحسن بن ذكوان

5‏.‏ داود بن الحصين

6‏.‏ زكريا بن إسحاق

7‏.‏ سالم بن عجلان

8‏.‏ سالم بن مسكين

9‏.‏ سيف بن سليمان المكي

10‏.‏ شبل بن عباد

11‏.‏ شريك بن أبي نمر

12‏.‏ صالح بن كيسان

13‏.‏ عبدالله بن عمرو

14‏.‏ أبو معمر عبدالله بن أبي لبيد

15‏.‏ عبدالله بن أبي نجيح

16‏.‏ عبدالأعلى بن عبدالأعلى

17‏.‏ عبدالرحمن بن إسحاق الدني

18‏.‏ عبدالوارث بن سعيد التنوري

19‏.‏ عطاء بن أبي ميمونة

20‏.‏ العلاء بن الحارث

21‏.‏ عمرو بن زائدة

22‏.‏ عمران بن مسلم القصير

23‏.‏ عمير بن هاني

24‏.‏ عوف الأعرابي

25‏.‏ كهمس بن المنهال

26‏.‏ محمد بن سواء البصري

27‏.‏ هارون بن موسى الأعور النحوي

28‏.‏ هشام الدستوائي

29‏.‏ وهب بن منبه

30‏.‏ يحيى بن حمزة الحضرمي‏.‏

ب- والذين رموا بالتشيع‏:‏

1‏.‏ إسماعيل بن أبان

2‏.‏ إسماعيل بن زكريا الخلقاني

3‏.‏ جرير بن عبدالحميد

4‏.‏ أبان بن تغلب الكوفي

5‏.‏ خالد بن مخلد القطواني

6‏.‏ سعيد بن فيروز أبو البختري

7‏.‏ سعيد بن أشوع

8‏.‏ سعيد بن عفير

9‏.‏ عباد بن العوام

10‏.‏ عباد بن يعقوب

11‏.‏ عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى

12‏.‏ عبدالرزاق بن همام

13‏.‏ عبدالملك بن أعين

14‏.‏ عبيدالله بن موسى العبسي

15‏.‏ عدي بن ثابت الأنصاري

16‏.‏ علي بن الجعد

17‏.‏ علي بن هاشم بن البريد

18‏.‏ الفضيل بن دكين

19‏.‏ فضيل بن مرزوق الكوفي

20‏.‏ فطر بن خليفة

21‏.‏ محمد بن جحاده الكوفي

22‏.‏ محمد بن فضيل بن غزوان

23‏.‏ مالك بن إسماعيل أبو غسان

24‏.‏ يحيى بن الخراز، هؤلاء رموا بالتشيع وهو تقديم علي على الصحابة‏.‏

ج- والذين قالوا بخلق القرآن‏:‏

بشر بن السرى، ورمى برأي جهم وهو نفي صفات الله تعالى والقول بخلق القرآن‏.‏

د- والذين رموا بالخروج‏:‏

1‏)‏عكرمة مولى ابن عباس

‏(‏قال ابن حجر‏:‏ ‏"‏والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه رأى ذلك، وإنما كان يوافقه في بعض المسائل، فنسبوه إليهم، وقد برأه أحمد والعجلي من ذلك فقال في كتاب الثقات له ‏"‏عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه من الحرورية‏"‏ وقال ابن جرير‏:‏ ‏"‏لو كان كل من ادعى عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك لزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما فيهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه‏"‏ هدى الساري ص 428‏)‏

2‏)‏ الوليد بن كثير، وهؤلاء الحرورية وهم الخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذويه وقاتلوهم‏.‏

هـ- ومن رمي بالوقف بالقرآن‏:‏

علي بن أبي هاشم رمي بالوقف، وهو أن لا يقول القرآن مخلوق‏.‏

و- وممن رمي بالخروج قولاً لا فعلاً‏:‏

عمران بن حطان من القعدية، الذين يرون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك‏.‏

ز- والذين اتهموا بالإرجاء‏:‏

وهم‏:‏

1‏.‏ إبراهيم بن طهمان

2‏.‏ أيوب بن عائذ الطائي

3‏.‏ ذر بن عبدالله المرهبي

4‏.‏ شبابة بن سوار

5‏.‏ عبدالحميد بن عبدالرحمن أبو يحيى الحماني

6‏.‏ عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد

7‏.‏ عثمان بن غياث البصري

8‏.‏ عمر بن ذر

9‏.‏ عمر بن مرة

10‏.‏ محمد بن خازم أبو معاوية الضرير

11‏.‏ ورقاء بن عمر اليشكري

12‏.‏ يحيى بن صالح الوحاضي‏.‏

ح- الذين اتهموا بالنصب وهو بغض علي رضي الله عنه‏:‏

1‏.‏ إسحاق بن سويد العدوي

2‏.‏ بهز بن أسد

3‏.‏ حريز بن عثمان

4‏.‏ حصين بن نمير الواسطي

5‏.‏ خالد بن سلمة الفأفاء

6‏.‏ عبدالله بن سالم الأشعري

7‏.‏ قيس بن أبي حازم

‏(‏انظر هدى الساري 483،484‏)‏‏.‏

وممن أخرج لهم مسلم أيضاً دون البخاري وهم من أهل الأهواء جعفر بن سليمان الضبعي البصري‏.‏ قال عنه الذهبي في السير‏:‏

‏"‏ كان من عباد المتشيعة، وعلمائهم، وقد حج وتوجه إلى اليمن فصحبه عبدالرزاق وأكثر عنه، وبه تشيع‏"‏‏.‏ ‏(‏السير 8/198‏)‏‏.‏

ومعلوم أن نسبة هذين الفاضلين إلى التشيع إنما هو بمعنى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وأما من سب الشيخين فهو رافضي غال وبدعته كبيرة ولا تقبل روايته‏.‏

54- رأي الخطيب البغدادي في الرواية عن أهل البدع‏.‏

قال الخطيب البغدادي رحمه الله في بيان مذاهب أهل الحديث في قبول رواية المبتدع‏:‏

‏"‏اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة، وفي الإحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى تكفير المتأولين، وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول، وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس رحمه الله‏.‏

وقال من ذهب إلى هذا المذهب‏:‏ إن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد فيجب أن لا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما‏.‏

وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة، وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله فإنه قال‏:‏

‏"‏وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم‏"‏ وحكي أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وروي مثله عن أبي يوسف القاضي‏.‏

وقال كثير من العلماء‏:‏ تقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، وممن ذهب إلى ذلك عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل‏.‏

وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين‏:‏ أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة، وإن كانوا كفاراً وفساقاً بالتأويل ‏(‏الكفاية في علم الرواية ص 120،121‏)‏‏.‏

وكأن الخطيب البغدادي رحمه الله رجح قول من يقول أنه تقبل رواياتهم إذا علم منهم الصدق والدين والأمانة في النقل حيث يقول‏:‏

‏"‏والذي يعتمد عليه في تجويز الإحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك، لما رأوا من تحرّيهم الصدق، وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم من عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الإحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة أباضياً، وابن أبي نجيح معتزلياً، وعبدالوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين كانوا قدرية، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام، كانوا مرجئة، وعبيدالله بن موسى وخالد بن مخلد وعبدالرزاق بن همام، كانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير لا يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب‏"‏ ‏(‏الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص125‏)‏‏.‏

55- لماذا لا تجوز الرواية عن الرافضة‏؟‏

ولم يجوز الأئمة عن الرافضة لاستحلالهم الكذب، قال الخطيب في الكفاية‏:‏

‏"‏أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال‏:‏ ثنا علي بن عبدالعزيز البرذعي قال ثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال حدثني أبي قال أخبرني حرملة بن يحي قال سمعت الشافعي يقول لم أر أحداً من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة‏!‏‏!‏‏!‏

أخبرنا أحمد بن محمد الروياني قال ثنا محمد بن العباس الخزاز قال ثنا أبو أيوب سليمان بن اسحاق الجلاب، قال سمعت إبراهيم الحربي يقول‏:‏ سمعت علي بن الجعد يقول سمعت أبا يوسف يقول أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون‏.‏

قال أبو أيوب سئل إبراهيم عن الخطابية، فقال صنف من الرافضة، وصفهم إبراهيم فقال‏:‏ إذا كان لك على رجل ألف درهم ثم جئت إلي فقلتَ إن لي على فلان من الناس ألف درهم وأنا لا أعرف فلاناً، فأقول لك وحق الإمام إنه هكذا‏؟‏ فإذا حلف ذهبتُ فشهدتُ لك هؤلاء الخطابية‏"‏ ‏(‏الكفاية ص 126‏)‏‏.‏

ونقل السيوطي عن الذهبي أنه قال‏:‏

‏"‏اختلفت الناس في الإحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال‏:‏ المنع مطلقاً، والترخيص مطلقاً إلا من يكذب ويضع، والثالث‏:‏ التفصيل بين العارف بما يحدّث وغيره‏.‏ وقال أشهب‏:‏ سئل مالك عن الرافضة، فقال‏:‏ لا تكلموهم ولا ترووا عنهم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لم أر أشهد بالزور من الرافضة‏.‏ وقال يزيد بن هارون‏:‏ يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة‏.‏ وقال شرَيك‏:‏ احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة‏.‏ وقال ابن المبارك‏:‏ لا تحدّثوا عن عمروا بن ثابت فإنه كان يسب السلف‏"‏ أ‏.‏هـ ‏(‏تدريب الراوي 1/327،328‏)‏‏.‏

56- الإمام أبو حنيفة يسوي بين بدعة الرافضة، ومن يأتي السلطان الظالم في عدم جواز قبول روايته‏.‏

روي الخطيب البغدادي الأثر الآتي عن الإمام أبو حنيفة رحمه الله‏:‏

‏"‏أخبرني أبو بشر محمد بن عمر الوكيل قال ثنا عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ قال‏:‏ ثنا محمد بن الحسن المقري قال‏:‏ ثنا عبدالله بن محمود المروزي قال‏:‏ ثنا أحمد بن مصعب قال‏:‏ ثنا عمر بن إبراهيم قال‏:‏ سمعت ابن المبارك يقول‏:‏ سأل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار‏؟‏ قال‏:‏ من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعاً، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي ولكن وطئوا لهم حتى انقادت العامة بهم فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين‏"‏ ‏(‏الكفاية في علم الرواية ص 126‏)‏‏.‏

وهكذا جعل الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشيعة الذين يرون تضليل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتدعة لا يجوز قبول روايتهم لطعنهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من يأتي السلاطين الظلمة طواعية أي دون أن يدعوهم ويضطروه معللاً ذلك أنهم وطأوا لهم مع ظلمهم‏.‏

سادساً‏:‏ حكم الصلاة، والترحم على أهل البدع‏.‏

57- خلاصة أقوال أهل العلم وعلماء السلف في الصلاة والترحم على أهل البدع‏.‏

1- أن من مات كافراً أصلياً لم يدخل الإسلام، أو دخل في الإسلام ولكنه مات بعد ذلك شاهداً على نفسه بالكفر، أو حكم بردته وخروجه من الدين ومات على ذلك أو كفر ببدعته وأقيمت عليه الحجة بعينه، فإنه لا يجوز الصلاة عليه ولا الترحم عليه وهذا مجمع عليه‏.‏

2- أن من مات عاصياً، أو مبتدعاً ولو ببدعة لا تخرج من الدين، فإنه يشرع للإمام، وأهل العلم ترك الصلاة عليه زجراً للناس عن معصيته وبدعته والعياذ بالله‏.‏

3- أن ترك الإمام وبعض أهل العلم للصلاة والترحم على أهل البدع والمعاصي لا يعني تحريم ذلك على الجميع بل تجب الصلاة عليه فرض كفاية، ما دام أنه لم يمت كافراً من الذين حكم بخلودهم في النار خلوداً أبدياً والعياذ بالله‏.‏

58- ترك الصلاة والترحم من بعض العلماء على بعض أهل البدع لا يستلزم تحريم ذلك على الجميع‏.‏

واعلم أنه إذا قام بعض العلماء بترك الصلاة والترحم على أهل البدع فليس هذا مانعاً لغيرهم من عموم المسلمين من الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم لأن ما يفعله بعض العلماء قد يكون للزجر‏.‏ وإذا كان صاحب البدعة لم يمت على بدعة تخرجه من الإسلام وتكفره فإنه يحسن بل يجب وجوباً كفائياً الصلاة عليه‏.‏

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً‏:‏

‏"‏وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين ‏(‏الصلاة‏)‏ على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والإستغفار له، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال، وقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له‏:‏ ‏(‏صلوا على صاحبكم‏)‏ وروي أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجراً عن مثل مذهبه، كما روي في حديث محلم بن جثامة‏"‏ أ‏.‏هـ ‏(‏الفتاوى 7/217‏)‏‏.‏

وبالتالي فكل من مات ونحن نعتقد أنه مات على الإسلام وليس على الكفر فلا يترك الصلاة عليه، والترحم عليه، بل يجب وجوباً كفائياً‏.‏

وقد فسر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الوجوب الكفائي بقوله‏:‏

‏"‏وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين‏.‏ ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسناً‏.‏ وقد قال لجندب بن عبدالله البجلي ابنه‏:‏إني لم أنم البارحة بشماً ‏(‏أي أنه أكل كثيراً حتى يفسد الطعام في معدته، وهذا معنى البشم‏)‏ فقال‏:‏ أما إنك لو مت لم أصل عليك‏.‏ كأنه يقول‏:‏ قتلت نفسك بكثرة الأكل‏.‏ وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسناً، ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة، كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين أولى من تفويت إحداهما‏.‏

وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الإستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏(‏محمد‏:‏19‏)‏ وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان، والله أعلم‏"‏ ‏(‏الفتاوى 24/286،287‏)‏‏.‏

فأما الذي تُترَك الصلاة عليه فهو الكافر بالكلية والذي يموت على كفر معلوم أو نفاق اعتقادي معلوم وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏

‏"‏وليس في الكتاب والسنة المطهرون للإسلام إلا قسمان‏:‏ مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الإسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب أذنبه، ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً‏"‏ ‏(‏انظر الفتاوى 12/489‏)‏‏.‏

وهذا بحمد الله هو العدل الذي لا يجوز المحيد عنه‏.‏

والإمام أحمد رحمه الله وإن نقل عنه أنه يقول بكفر من قال بخلق القرآن، إلا أنه كذلك دعا للخليفة وغيره ممن ضربوه وحبسوه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم، ودعوتهم إياه إلى القول بخلق القرآن وهو كفر‏.‏ ولا شك أنهم لو كانوا مرتدين وكفاراً أو أنه لا يستجيز الصلاة على صاحب البدعة مطلقاً ما ترحم على هؤلاء ولا استغفر لهم فإن الإستغفار للكفار لا يجوز ويحرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين‏.‏

وهذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الراجح كذلك من مذهب الإمام الشافعي رحمه الله فإنه رأى الصلاة خلف أهل البدع وأنهم لا يكفرون‏.‏

كما نقل ذلك النووي رحمه الله حيث يقول‏:‏

‏"‏وتكره أيضاً خلف المبتدع الذي يكفر بدعته، وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الإقتداء به‏.‏ وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار‏.‏ وعد صاحب ‏(‏الإفصاح‏)‏ من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئاً من صفات الله تعالى، كافراً‏.‏ وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر‏.‏ والخوارج، لا يكفرون‏.‏ ويحكي القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي‏.‏ وأطلق القفال، وكثيرون من الأصحاب، القول بجواز الإقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون‏.‏ قال صاحب ‏(‏العدة‏)‏‏:‏ وهو ظاهر مذهب الشافعي‏.‏

قلت ‏(‏أي النووي‏)‏‏:‏ هذا الذي قاله القفال، وصاحب ‏(‏العدة‏)‏ هو الصحيح، أو الصواب‏.‏ فقد قال الشافعي رحمه الله‏:‏ أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم‏.‏ ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم‏.‏ وقد تأول الإمام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم علي هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم‏.‏ والله أعلم‏"‏ ‏(‏روضة الطالبين 1/355 طبع المكتب الإسلامي‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ الموقف الشرعي من كتب ومصنفات أهل البدع أو من رمي ببدعة‏.‏

59- ضوابط الحكم على مصنفات وكتب من رمي ببدعة‏.‏

خلاصة موقف السلف وأهل السنة والجماعة من مصنفات أهل البدع كما يلي‏:‏

1- الكتب المؤلفة في البدعة نصراً وشرحاً وترويجاً لها لا يجوز إقتناؤها ولا تداولها بحال، وذلك ككتب الكفر والزندقة والإلحاد، والتصوف الفلسفي، والكلام واللادينية، ومن طلب الهداية في هذه الكتب ضل‏.‏ كما قاله الإمام الشافعي في كتب الكلام أنها لا يجوز بيعها ولا تقع في الملك بالوراثة، وهكذا الحال في كتب الفسق والفجور والإباحية‏.‏‏.‏

2- يجوز اقتناء الكتب الموصوفة في الفقرة السابقة وذلك من أجل الرد على مؤلفيها أو تابعيها، وذلك من أجل إبطال منكر أصحابها كما ذكر الله مقالة اليهود ورد عليهم، وكما فعل أئمة الدين من الرد والإبطال لكتب الزنادقة والمبتدعة، وهذا ما فعله الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الزنادقة، وابن تيمية رحمه الله في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وسائر المبتدعة‏.‏

3- الكتب والمصنفات المؤلفة في علوم الدين كالتفسير والحديث والتاريخ والسيرة وغير ذلك، والتي صنف فيها بعض من رموا ببدعة فينظر‏:‏

أ‏)‏ إن كان الغالب عليها الخير والصواب فيجب نشرها وترويجها، وهذه الكتب كفتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا الكتاب هو الذي قيل فيه بأنه لم يسبق إلى مثله وأعجز مؤلفه من بعده عن تأليف مثله، وإن كان صاحبه قد رمي ببدعة الأشعرية والتخبط في عقيدته، ولكن الكتاب لا يوجد فيه إلا سقطات قليلة لا توهن منه ولا تضعف من شأنه‏.‏‏.‏‏.‏ وهذه يمكن التنبيه عليها وبيانها‏.‏‏.‏‏.‏ ومن حذر من مثل هذا الكتاب فهو جاهل جلف، أو ساع في هدم الدين وإبطال السنة‏.‏ ومثل هذا أيضاً كتب الفقه للإمام أبي حنيفة، والنووي، وابن الجوزي، وابن حزم رحمهم الله‏.‏

ب‏)‏ هناك بعض الكتب المؤلفة في فروع الدين كالتفسير لبعض من رمي ببدعة من علماء الإسلام ويغلب عليها الخير ولكن نسبة الدس فيها كبيرة، وقد عمد أصحابها إلى ترويج مذهبهم ونشره بطريق خفي، وذلك نحو تفسير الزمخشري رحمه الله، وتفسير ابن عطية، ولا شك أن تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري ومثل هذه الكتب ينبغي للمبتدئ في طلب العلم ألا يبدأ بها، وهي نافعة لمن كان عنده إلمام بالمعتقد الصحيح وحقيقة بدعة الإعتزال ويعرف كيف يتحرز من العبارات الخفية التي تندس في هذه الكتب‏.‏‏.‏‏.‏

وهذه الكتب لغلبة الخير فيها ولعظيم الفائدة منها لا يحذر منها على الإطلاق ولكن ينظر إلى حال القارئ‏.‏

وإليك بعض شهادات أهل العلم في مصنفات من رمي ببدعة‏.‏